كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقب بأنه لا يظهر حينئذ نكتة إيراد المسند معرفًا فإن الظاهر عليه أن يقال: الملك يومئذ حق للرحمن.
وأجيب بأن في تعلقه بما ذكر تأكيد لما يفيده تعريف الطرفين، وقيل: هو متعلق بمحذوف على التبيين كما في سقيا لك والمبين من له الملك، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة للحق وهو كما ترى، وقيل: {يومئذ} هو الخبر و{الحق} نعت للملك و{الرحمن} متعلق به، وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر فلا تغفل.
ومنعوا تعلق {يَوْمَئِذٍ} فأما إذا لم يكن خبرًا بالحق وعللوا ذلك بأنه مصدر والمصدر لا تتقدم عليه صلته ولو ظرفا وفيه بحث، والجملة على أكثر الاحتمالات السابقة في عامل {يَوْم} [الفرقان: 25] استئناف مسوق لبيان أحوال ذلك اليوم وأهواله، وإيراده تعالى بعنوان الرحمانية للإيذان بأن اتصافه عز وجل بغاية الرحمة لا يهون الخطب على الكفرة المشار إليه بقوله تعالى: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكافرين عَسِيرًا} أي وكان ذلك اليوم مع كون الملك فيه لله تعالى المبالغ في الرحمة بعباده شديدًا على الكافرين، والمراد شدة ما فيه من الأهوال، وفسر الراغب العسير بما لا يتيسر فيه أمر؛ والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وفيها إشارة إلى كون ذلك اليوم يسيرًا للمؤمنين وفي الحديث «إنه يهون على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا».
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} قال الطبرسي: العامل في {يَوْمٍ} اذكر محذوفًا؛ ويجوز أن يكون معطوفًا على ما قبله، والظاهر أن أل في الظالم للجنس فيعم كل ظالم وحكى ذلك أبو حيان عن مجاهد وأبى رجاء، وذكر أن المراد بفلان فيما بعد الشيطان، وقيل: لتعريف العهد، والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط لعنه الله تعالى وبفلان أبي بن خلف، فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعامًا فدعا عليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجيبه حديثه وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنه طعامًا ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: اطعم يا ابن أخي فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بالطي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة والسلام من طعامه فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة وكان خليله فقال: والله ما صبوت ولكن دخل على رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا وذكر فعلًا لا يليق إلا بوجه القائل اللعين ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجًا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف، وفي رواية إن وجدتك خارجًا من جبال مكة أضرب عنقك صبرًا فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه: أخرج معنا قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًافقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم فلما هزم الله تعالى المشركين رحل به جملة في جدد من الأرض فأخذ أسيرًا في سبعين من قريش وقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليًا كرم الله تعالى وجهه.
وفي رواية ثابت بن أبي الأفلح بأن يضرب عنقه فقال أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم قال: بم؟ قال: بكفرك وفجورك وعتوك على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم صرح له بما فعل معه ثم ضربت عنقه، وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال: والله لأقتلن محمدًا صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: بل أقتله إن شاء الله تعالى فأنزعه ذلك وقال لمن أخبره: أنشدك بالله تعالى أسمعته يقول ذلك؟ قال نعم فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال قولًا إلا كان حقًا فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة والسلام ليحمل عليه فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة والسلام وبينه فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: خلوا عنه فأخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه فخر يخور كما يخور الثور فأتي أصحابه حتى احتملوه وهو يخور فقالوا: ما هذا فوالله ما بك الأخدش فقال: والله لو لم يصبني ألا بريقه لقتلني أليس قد قال: أنا أقتله، والله لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم فما لبث إلا يومًا أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن ظالم أبي بن خلف وفلان عقبة، وعص اليدين إما على ظاهره، وروي ذلك عن الضحاك، وجماعة قالوا: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وإما كناية عن فرط الحسرة والندامة، وكذا عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأسنان والأدم ونحوها لأنها لازمة لذلك في العادة والعرف وفي المثل يأكل يديه ندمًا ويسيل دمعه دمًا، وقال الشاعر:
أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ** عليه فافضى والسيوف معاقله

والفعل عض على وزن فعل مكسور العين، وحكى الكسائي عضضت بفتح العين.
{يَقُولُ يا ليتنى لَيْتَنِى اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا} الجملة مع موضع الحال من الظالم أو جملة مستأنفة أو مبينة لما قبلها و{يا ويلتى لَيْتَنِى} الخ مقول القول، ويا اما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف يا قومي ليتني، وأل في {الرسول} أما للجنس فيعم كل رسول وإما للعهد فالمراد به رسول هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم والأول إذا كانت أل في الظالم للجنس والثاني إذا كانت للعهد، وتنكير {سَبِيلًا} أما للشيوع أو للوحدة وعدم تعريفه لادعاء تعينه أي يا ليتني اتخذت طريقًا إلى النجاة أي طريق كان أو طريقًا واحدًا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.
{يَا ويلتى} بقلب ياء المتكلم ألفًا كما في صحاري، وقرأ الحسن وابن قطيب يا ويلتي بكسر التاء والياء على الأصل، وقرأت فرقة بالإمالة، قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن لأن الأصل في هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة والياء ألفًا فرارًا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا، وأيًا ما كان فالمعنى يا هلكتي تعالى واحضري فهذا أوانك {يا ويلتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا} أراد بفلان الشيطان أو من أضله في الدنيا كائنًا من كان أو أبيا إن كان الظالم أبيا، وهو كناية عن علم مذكر وفلانة عن علم مؤنث، واشترط ابن الحاجب في فلان أن يكون محكيًا بالقول كما هنا، ورده في شرح التسهيل بأنه سمع خلافه كثيرًا كقوله:
وإذا فلان مات عن أكرومة ** دفعوا معاوز فقره بفلان

وتقدير القول فيه غير ظاهر، والفلان والفلانة كناية عن غير العاقل من الحيوانات كما قال الراغب، وفل وفلة كناية عن نكرة من يعقل فالأول بمعنى رجل والثاني بمعنى امرأة، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط كما في البحر في قولهم: فل كناية عن العلم كفلان ويختص بالنداء إلا ضرورة كما في قوله:
في لجنة أمسك فلان عن فل

وليس مرخم فلان خلافًا للفراء، واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو، وقيل: ياء، وكنوا بهن بفتح الهاء وتخيف النون عن أسماء الأجناس كثيرًا، وقد كني به عن الأعلام كما في قوله:
والله أعطاك فضلًا عن عطيته ** على هن وهن فيما مضى وهن

فإنه على ما قال الخفاجي أراد عبد الله وإبراهيم وحسنًا والخليل من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة أطلق عليها ذلك إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وأنشد:
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبه سمى الخليل خليلًا

وإما لأنها تخلها فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية، وإما لفرط الحاجة إليها، وهذا التمني وإن كان مسوقًا لابراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير، وقوله تعالى: {لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر} تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعلله، وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي والله لقد أضلني فلأن عن ذكر الله تعالى أو عن موعظة الرسول عليه الصلاة والسلام أو عن كلمة الشهادة أو عن القرآن {بَعْدَ إِذْ جَاءنِى} أي وصل إلى وعلمته أو تمكنت منه فلا دلالة في الآية على إيمان من أنزلت فيه ثم ارتداده {وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولًا} مبالغًا في الخذلان وهو ترك المعاونة والنصرة وقت الحاجة ممن يظن فيه ذلك، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمي خليله شيطانًا بعد وصفه بالاضلال الذي هو أخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان ابليس لأنه الذي حمله على مجالسة المضلين ومخالفة الرسول الهادي عليه الصلاة والسلام بوسوسته وإغوائه فإن وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة وهو أوفق الحال إبليس عليه اللعنة.
{وَقَالَ الرسول} عطف على قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} [الفرقان: 21] الخ وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه وبيان ما يحيق بهم من الأهوال والخطوب، والمراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكى عنهم قدحًا في رسالته صلى الله عليه وسلم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عز وجل والشكوى عليهم {قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى} الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع {اتخذوا هذا القرءان} الجليل الشأن المشتمل على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم {مَهْجُورًا} أي متروكًا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يرفعوا إليه رأسًا ولم يتأثروا بو عيده ووعده، فمهجورًا من الهجر بفتح الهاء بمعنى الترك وهو الظاهر، وروي ذلك عن مجاهد والنخعي وغيرهما، واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه، وكان ذلك لئلا يندرج من لم يتعاهد القراءة فيه تحت ظاهر النظم الكريم فإن ظاهره ذم الهجر مطلقًا وإن كان المراد به عدم القبول لا عدم الاشتغال مع القبول ولامًا يعمهما فإن كان مثل هذا يكفي في الاستدلال فذاك وإلا فليطلب دليل آخر للكراهة.
وأورد بعضهم في ذلك خبرًا وهو: «من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقًا به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورًا اقض بيني وبينه» وقد تعقب هذا الخبر العراقي بأنه روي عن أبي هدبة وهو كذاب، والحق أنه متى كان ذلك مخلًا باحترام القرآن والاعتناء به كره بل حرم وإلا فلا.
وقيل: مهجورا من الهجر بالضم على المشهور أي الهذيان وفحس القول والكلام على الحذف والإيصال أي جعلوه مهجورًا فيه إما على زعمهم الباطل نحو ما قالوا: إنه {أساطير الأولين اكتتبها} [الفرقان: 5] وإما بأن هجروا فيه ورفعوا أصواتهم بالهذيان لما قرىء لئلا يسمع كما قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] وجوز أن يكون مصدرًا من الهجر بالضم كالمعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلادة أي اتخذوه نفس الهجر والهذيان، ومجيء مفعول مصدرًا مما أثبته الكوفيون لكن على قلة، وفي هذه الشكوى من التخويف والتحذير ما لا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا.
وقيل: إن {قَالَ} الخ عطف على {يَعَضُّ الظالم} [الفرقان: 27]، والمراد ويقول الرسول إلا أنه عدل إلى الماضي لتحقق الوقوع مع عدم قصد الاستمرار التجددي المراد بمعونة المقام في بعض وإن كان إخبارًا عما في الآخرة.
وحال عطفه على {وَكَانَ الشيطان} [الفرقان: 29] الخ على أنه من كلامه تعالى لا يخفى حالة، وقول: الرسول ذلك يوم القيامة وهو كالشهادة على أولئك الكفرة وليس بتخويف وإلى ذلك ذهبت فرقة منهم أبو مسلم، والأول أنسب بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ المجرمين}.
فإنه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، والبلية إذا عمت هانت، والعدو يحتمل أن يكون واحدًا وجمعًا أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوًا من مرتكبي الجرائم والآثام ويدخل في ذلك آدم عليه السلام لدخول الشياطين وقابيل في المجرمين ويكتفي بدخول قابيل إن أريد بالمجرمين مجرمو الإنس أو مجرمو أمة النبي، وقيل: الكلية بمعنى الكثرة، والمراد بجعل الأعداء جعل عداوتهم وخلقها وما ينشأ منها فيهم لا جعل ذواتهم، ففي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم إن خالق الشر غيره تعالى شأنه، وقوله تعالى: {وكفى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وعد كريم له عليه الصلاة والسلام بالهداية إلى كافة مطالبة والنصر على أعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديًا لك إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات التي من جملتها تبليغ ما أنزل إليك وإجراء أحكامه في أكناف الدنيا إلى أن يبلغ الكتاب أجله وناصرًا لك عليهم على أبلغ وجه.
وقدر بعضهم متعلق {هاديًا} إلى طريق قهرهم، وقيل: المعنى هاديًا لمن آمن منهم ونصيرًا لك على غيره، وقيل: هاديًا للأنبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالاعتصام بحبله ونصيرًا لهم عليهم وهو كما ترى.
ونصب الوصفين على الحال أو التمييز. اهـ.